فقال : ما لكم لا ترجون لي البقاء ، كما خفتم عليّ الفناء؟ ! أما علمتم : ـ يا جهلة ـ أن النفس قد تلتاث على صاحبها ، إذا لم يكن لها من العيش ما تعتمد عليه؛ فإذا هي أحرزت معيشتها أطمأنت (1).
فهذا النص يؤكد لنا :
1 ـ أن سلمان لا يريد ولو لمرة واحدة : أن ينشغل بنفسه وينصرف عن الله سبحانه.
2 ـ إنه يتعامل مع طموحات نفسه وميولها ، من موقع العارف والواعي ، الذي يفكر بعمق بالداء وبالدواء على حد سواء ، ويكون علاجه للحالة التي يعاني منها أساسياً وواقعياً ..
3 ـ يلاحظ : أن المعترضين ـ يشهدون له بالزهد والعزوف عن الدنيا ، ولكنهم لم يعرفوا سر تعامله ذاك ، فوقعوا بالحيرة.
4 ـ إنه قد الفتهم إلى خطأهم في طرح المعادلة التي بنوا عليها نظريتهم تلك وكان تقييمه لتلك المعادلة الفكرية قائماً على أساس النظرة الواقعية أيضاً ، لا على اساس المظاهر الخادعة ، والشعارات البراقة.
وهناك اُمور اُخرى يمكن استخلاصها من النص المذكور ، ولكننا لا نرى ضرورة للتعرض لها في عجالة كهذه.. فنكتفي بهذا القدر ، ونوفر الفرصة للحديث عن جوانب اُخرى ، في شخصية وحياة هذا الرجل الفذ.

هكذا ينجو المخفون :
عن كتاب المحاسن : وقع حريق في المدائن؛ فأخذ سلمان مصحفه وسيفه ، وخرج من الدار ، وقال :
____________
(1) قاموس الرجال ج4 ص425 | 426 عن الكافي
( 52 )

« هكذا ينجو المخفون» (1).
و« قيل دخل عليه رجل؛ فلم يجد في بيته الا سيفاً ومصحفاً ، قال : ما في بيتك إلا ما أرى؟! قال : ان امامنا منزل كؤود ، وأنا قد قدمنا متاعنا إلى المنزل» (2).
ومما يمكن اعتباره في هذا السياق ، ما روي بسند معتبر : عن أبي عبدالله عليه السلام ، قال :
« كان لعلي عليه السلام بيت ليس فيه شيء ، إلاّ فراش ، وسيف ، ومصحف ، وكان يصلي فيه ـ أو قال : كان يقيل فيه.. » (3).
فلماذا السيف والمصحف ، دون سواهما ، يا ترى؟ ماذا نستوحي من ذلك؟ وكيف نستفيد العبرة منه؟!
سؤال لابد وان يراود أذهان الكثيرين!! وتتشوف نفوسهم إلى معرفة الجواب عنه ، بصور مقنعة ، ومقبولة.
ولسوف نحاول هنا معالجة الاجابة عنه ، رغم اقتناعنا بأن توفيته حقه ، تتطلب فرصة أوفر ، وتوفراً أتم.. ولكننا سوف نكتفي هنا بإشارة خاطفة ومحدودة ، تصلح لان تكون مدخلاً مناسباً للاجابة التامة والمقبولة ، فنقول :
إن الله سبحانه ، حينما أوجد هذا الكائن ، قد أراد له أن يكون إنسانأً بالدرجة الاولى ، ثم هو أراد له أن يكون حرّاً..
فكل ما يتنافى مع هذه الإنسانية ، ومع تلك الحرية ، ويحدّ من فاعليتها ، يكون مناقضاً لفطرة الإنسان وغير منسجم معها ، ولا متوافق مع ما يريده الله سبحانه لهذا الانسان..
____________
(1) قاموس الرجال ج4 ص425 والدرجات الرفيعة ص215 ونفس الرحمان ص140 عن الانوار النعمانية.
(2) الدرجات الرفيعة ص215 ونفس الرحمان ص140 عن الانوار النعمانية.
(3) المحاسن للبرقي 612 والبحار ج73 ص161 والوسائل ج3 ص555.

( 53 )

(والبحث عن هذه الحرية ، وحقيقتها ، وحدودها ، وضوابطها بنظر الاسلام ، دقيق ، وعميق ، وهام ، ولكن ليس محله هنا؛ فلابدّ من إحالة ذلك إلى فرصةٍ اخرى ، ومجال آخر ، إن شاء الله تعالى.. ).
وبالنسبة إلى الجانب الآخر نقول :
لقد بعث الله سبحانه الرسل ، وأنزل الكتب؛ ليطهر الناس ، وليزكيهم ، ويربيهم من جهة .. وليعلمهم الكتاب والحكمة من جهة ثانية..
ثم أنزل الحديد فيه بأس شديد..
قال تعالى : في مقام بيان هذه العناصر : « .. هو الذي بعث في الاميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة» (1).
وقال : « لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وانزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ..» (2).
وعن دعوة ابراهيم واسماعيل ، قال تعالى : « ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم» » (3).
وقال تعالى أيضاً : « لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين..» (4).

المرحلة الاولى :
إنه حينما يرسل الله سبحانه رسله إلى الناس؛ فان الناس يواجهونهم بالاستغراب ، والانكار؛ فتمس الحاجة إلى اظهار البينات ، المشار إليها في آية
____________
(1) الجمعة 2.
(2) الحديد 25.
(3) البقرة 129.
(4) آل عمران 164.

( 54 )

سورة الحديد ، والحجج والبراهين الدامغة ، والقاهرة ، التي تثبت صحة ما يقولون ، سواء أكان ذلك من قبيل المعجزات ، وخوارق العادات أو من قبيل توجيه الناس نحو التفكر في عجائب الكون ، غرائب الخلقة ، أو من قبيل التذكير بأيام الله ، وبما جرى على الماضين ، أو بالبشارات التي تتحقق ، أو بغير ذلك من الحجج القاطعة ، والبراهين الساطعة..
وهذه البينات تكون بمثابة صدمة قوية ، لابد وأن يذعن العقل معها للحق ، وينصاع له .. ولعل قسماً من هذه البينات تبينه الآيات التي يتلوها عليهم ، كما أشارت إليه آيات سورة الجمعة ـ والبقرة ، وآل عمران ، الآنفة الذكر ـ حيث قرن تعليم الكتاب بتلاوة الآيات الالهية عليهم ..

المرحلة الثانية :
وبعد.. أن يذعن العقل للحق ، ويأتي دور التزكية ، وبث الفضائل والمزايا الخيّرة ، والنبيلة في نفس الانسان ، ثم تصفيتها من الرواسب والشوائب ، وإقناع الانسان بأن عليه أن لا يستكبر ، ولا يعلو ، وأن لا يكون حقوداً ، ولا حريصاً ، ولا جباناً .. إلخ .. « ويزكيهم» .
فيبذر في نفسه بذور الخير ، والبركة ، والصلاح ، الامر الذي يهيؤه لمزيدٍ من الفهم ، ولمزيد من التعقيل والوعي لاحكام الدين وتشريعاته ويجعله على استعداد لان يبذل جهده في سبيل تطبيق هذه الاحكام على نفسه ويعمل ، ويجدّ ، ويتحمل المشاق لتطبيقها ، على مجتمعه؛ فان الاخلاق هي أساس الدين ، ولابد للدين منها؛ وذلك لاُن عبادة الله سبحانه ، لا تتلاءم مع الاستكبار : « إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته» (1).
ولولا استكبار فرعون لكان آمن ، وقبل الحق .. وكذلك إبليس.
____________
(1) الاعراف 206.
( 55 )

كما أن عبادة الله سبحانه ، لا تتلاءم مع سائر الرذائل الاخلاقية ، كالكذب ، والعلو ، والظلم ، والختر ، والمكر السيء ، وغير ذلك..
فالذي لا يتخلص من رذائل الاخلاق ، وإن كان قد يستيقن بالحق؛ نتيجة لما يتلى عليه من الآيات ، ويراه من البينات الظاهرة ، والقاهرة ، ولكنه يكون من الجاحدين ، الذين قال الله عنهم : « وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً» (1).
ومما يشير إلى دور الاخلاق في قبول الحق ، والاذعان ، والتسليم له ، قوله تعالى :
« ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد ايمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ..» (2).
فقد قررت الآية دور الحسد في الصد عن قبول الحق الظاهر والبيّن لهم.

ثم تأتي المرحلة الثالثة :
وهي تعليم الكتاب ، ونشر معارفه؛ عملاً بقوله تعالى : « يعلمهم الكتاب » ؛ وذلك من أجل أن يعطيه الرؤية الصحيحة ، والوعي الكافي لمعالجة مشكلات الحياة ، والقضايا التي تواجهه ، ويمنحه القدرة على تقييمها ، بصورة صحيحة وسليمة ، لكي ينطلق في مجال العمل عن وعي ، وعن معرفة تامة بما يريده الله سبحانه منه؛ فيعمل بما يأمره به ، ويجتنب عما ينهاه الله عنه.

المرحلة الرابعة :
ثم تأتي مرحلة ، إثارة دفائن العقول ، والابتعاد عن الجمود ، واعطاء العقل دوره وأصالته ، بتعليم من الله سبحانه ، وفق الضوابط والقواعد الصحيحة ،
____________
(1) النمل 14 .
(2) البقرة 109.

( 56 )

والسليمة ، عملاً بقوله تعالى : « والحكمة» و « الميزان» ، الذي لعله تعبير آخر عن الحكمة ، التي تعني وضع الشيء في موضعه ، من غير زيادة ، ولا نقيصة..
وذلك لانه لابد من التعامل مع الامور بروح الحكمة ، ولا سيما فيما يرتبط بالحياة الاجتماعية ، التي تحتاج ، إلى مزيد من الوعي ، وإلى التدبر ، ومن ثم إلى الموقف العادل والصحيح « ليقوم الناس بالقسط» .
ويلاحظ هنا : أنه قد نسب القيام بالقسط إلى الناس. وهذا القيام إنما هو النتيجة الطبيعية لوعيهم ، ولتكاملهم .
نعم .. إن التعامل مع الامور ، لابد أن يكون على أساس الحكمة ، التي تعني إدراك الواقع أولاً ، ثم التعامل معه بما يستحقه ، فلا يظلمه بأن يبخسه حقه ، ولا يعتدي عليه ، بأن يتخمه بالعطاء ، حتى يفسد حياته ، ويرهق وجوده..

إنزال الحديد .. لماذا؟!
وطبيعي : أن قيام الناس بالقسط ـ كما أشارت إليه الآية ـ لسوف يصطدم بكثير من العقبات . ولسوف يلقى معارضة قوية وساحقة من قبل الطواغيت والجبارين ، والمستأثرين بمقدرات الامم.
ولسوف يصطدم أيضاً بأولئك الذين يكبلون الناس بمختلف أنواع القيود؛ بهدف أن يبقى المجال مفسوحاً ، والباب مفتوحاً ، أمامهم لاستغلال الناس ، وامتصاص دمائهم ..
كما ويمنعونهم من ممارسة حرياتهم في مختلف الشؤون ، التي يرون أنها يمكن أن تؤثر على تلك الامتيازات الظالمة ، التي يجعلونها لانفسهم ، في مختلف مجالات الحياة.
فينزل الله سبحانه الحديد ، فيه بأس شديد ، ومنافق للناس؛ من أجل أن يصبح هذا الحديد سيفاً قاطعاً ، يدافع عن منجزات القرآن ، في صنعه لإنسانية الانسان ، ويؤمّن للانسان حريته ، التي جعلها الله سبحانه وتعالى له حريته في أن يفكّر ويقرر ، ثم في ممارسة حريته بالعمل طبق قناعاته وقراراته ، بتعليم من الله


( 57 )

سبحانه ، ووفق شرائعه واحكامه .
ويكون هذا السيف ، هو الاداة لنصرة الانسان المؤمن ، واعطائه هويته الانسانية ، والذي هو في الحقيقة نصر لله سبحانه ، ولرسله بالغيب؛ لان في ذلك نصراً لمبادىء الله سبحانه ، ولاهدافه ، وسننه في الكون ، وفي الحياة. وفيه أيضاً نصر لرسله ، في تحقيق الاهداف ، التي عملوا ، وجاهدوا ، وضحوا من اجلها ، بكل غال ونفيس.
فهل يمكن أن نستوحي من ذلك كله : خصوصية للسيف والمصحف في بيت علي عليه السلام ، وعند سلمان رحمه الله؟ !
ففي المصحف الآيات البينات ، التي تحكي لنا ما جرى للماضين ، مما فيه عبرة وذكرى. وفيه الكثير من العظات ، والامثال ، والبشائر. وهو الذي يربي ، ويزكي ، وهو الذي يعلّم ، ويفهِّم . وهو الذي يثير دفائن العقول ، ويعلم الناس الحكمة .. وهو نفسه معجزة خالدة ، وآية بينة ، وتحدٍّ خالد ..
والسيف.. هو الحديد الذي فيه بأس شديد ، باستطاعته أن يحمي منجزات القرآن ، في صنع إنسانية الانسان ، وهو الذي يدافع عن حرية هذا الانسان ، وعن كرامته ، التي أكرمه الله تعالى بها.
وهكذا .. فاننا نستوحي من علي عليه السلام ، ومن سلمان : المغزى العميق للآيات القرآنية الشريفة ، دون أن ينبسا ببنت شفة..
ويكون سلمان المحمدي غصناً من تلك الدوحة ـ دوحة الاسلام الباسقة ـ ويكون محمداً حقاً ، ومن أهل البيت صلوات الله وسلامه عليه وعليهم..

سلمان يفسر لنا المراد من : الصحابي :
عن أبي البختري ، قال : جاء الاشعث بن قيس ، وجرير بن عبدالله البجلي إلى سلمان (رض) ؛ فدخلا عليه ، في خصّ ، في ناحية المدائن؛ فأتياه؛ فسلّما عليه ، وحيّياه ، ثم قالا : أنت سلمان الفارسي ؟ !
( 58 )

قال : نعم.
قالا : أنت صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم .
قال : لا أدري.
فارتابا ، وقالا : لعله ليس الذي نريد.
فقال لهما : أنا صاحبكما الذي تريدان . قد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وجالسته ، وإنما صاحبه من دخل معه الجنة؛ فما حاجتكما .. . إلخ (1).
فاذا كان من الجائز أن لا يكون الاشعث وجرير قد تعرفا على سلمان قبل ذلك ، فان ما يلفت نظرنا هنا.
هو فهم سلمان للصحابي ، ونظرته إليه ؛ فهو يرى فرقاً واضحاً بين من يرى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ويجالسه ، وبين صاحب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنيسه ، فقد يراه ويجالسه ، حتى الكافر والمنافق ، فضلاً عن من خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً ..
ولكن صاحبه الذي يأنس به ، ويرتاح إليه ، هو خصوص ذلك الذي تؤهله اعماله الصالحة لذلك ، في الدنيا والآخرة على حد سواء ..
وهذا لا ينسجم مع ما هو شائع ومعروف لدى البعض ، من أن الصحابي هو كل من رأى النبيّ مميزاً مسلماً ، حتى أنه لو ارتد لذهبت صحابيته ، فان عاد عادت ، كما يذكرونه عن طليحة بن خويلد..

مهمّات كبيرة :
وبعد .. فان التاريخ قد ذكر لنا أشياء كثيرة ، تشير إلى أن سلمان الفارسي قد كانت له نشاطات ، واعمال على جانب كبير من الاهمية ..
فعدا عن أنه قد كان له موقف معارض في مسألة السقيفة ، التي انتجت
____________
(1) حلية الاولياء ج1 ص201 تهذيب تاريخ دمشق ج6 ص209 عن الحافظ والطبراني .
( 59 )

عدم وصول الخلافة الى صاحبها الشرعي أمير المؤمنين علي عليه السلام ، رغم تأكيدات الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم على أن علياً هو وليّ الامر بعده..
فانه ـ أعني سلمان ـ قد تولى على المدائن من قبل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بالذات ، واستمر والياً عليها سنوات كثيرة وإلى أن توفي رحمه الله ..
أضف إلى ذلك : أنه قد كُلّف باختيار موضع الكوفة ، ففعل ، وصلى فيه ركعتين ، ودعا بدعاء (1).
وعدا عن أنهم يقولون : إنه هو الذي أشار بحفر الخندق (2) فانهم يقولون أيضاً : إنه حين رأى بعض مواضعه ضيقاً ، بحيث يمكن للخيل أن تثب عنه ، ويصل الاعداء إلى المسلمين. أمر بتوسعة ذلك الموضع منه ، حتى فوَّت الفرصة على المشركين (3).
وقد نصب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم منجنيقاً على الطائف ، اتخذها سلمان الفارسي ويقال أيضاً : إنه هو الذي اشار بنصبها (4) .
هذا كله .. بالاضافة إلى مشاركته في الغزو ، وافتتاحه بعض البلاد (5).
وكان المسلمون قد جعلوه رائد الجيش ، وداعية أهل فارس (6).
فرحم الله سلمان الفارسي ، وأسكنه من جناته أفسحها منزلاً ، وافضلها غرفاً ؛ إنه وليّ قدير.
____________
(1) نور القبس ص 232 وتاريخ الامم والملوك ج4 ص41 و42.
(2) راجع : أنساب الاشراف للبلاذري (قسم حياة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم) ج1 ص343 ، وتاريخ الامم والملوك ج2 ص566 ومغازي الواقدي ج2 ص445 وقاموس الرجال ج4 ص424.
(3) راجع : مغازي الواقدي ج2 ص465.
(4) انساب الاشراف (قسم حياة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم) ج1 ص366 و377 وراجع : قاموس الرجال ج4 ص429 عنه.
(5) مسند أحمد ج5 ص444 و440 و441 وحلية الاولياء ج1 ص189 وراجع : طبقات المحدثين باصبهان ج1 ص235 وذكر أخبار اصبهان ج1 ص55.
(6) تاريخ الامم والملوك ج4 ص14 وراجع ج3 ص489 .

( 60 )


( 61 )

الفصل الرابع

يعارضهم .. ويشاركهم


( 62 )


( 63 )

مشاركة المعارضة في الحكم :
ولعله يصح لنا : أن نعتبر أمثال سلمان الفارسي ، وعمار بن ياسر ، والاشتر وو .. . إلخ. من الفئة التي كانت تعارض الحكم القائم آنذاك وتنتقده ، على اعتبار : أن هؤلاء ، ونظائرهم ، كانوا يرون : أن الخلافة بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، هي من حق علي أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام؛ استناداً إلى كثير من المواقف ، والاقوال ، والنصوص ، التي رأوها وسمعوها من النبيّ الاكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم ويرون أيضاً أن الآخرين قد تعدّوا وظلموا علياً عليه السلام في هذا الأمر ، واستأثروا به دونه..
بل إن المعتزلي الحنفي يروي لنا : عن البراء بن عازب: أنه حين بويع أبو بكر رآه ـ البراء ـ أقبل ومعه عمر ، وأبو عبيدة ، وجماعة ؛ لا يرون أحداً إلا خبطوه ، وقدموه ؛ فمدوا يده ؛ فمسحوها على يد أبي بكر ، يبايعه ، شاء ذلك أم أبى.
قال البراء : « فأنكرت عقلي ، وخرجت أشتد ، حتى انتهيت إلى بني هاشم ، والباب مغلق .. إلى أن قال :
فمكثت اكابد ما في نفسي ، ورأيت في الليل : المقداد ، وسلمان ، وأبا ذر ، وعبادة بن الصامت ، وأبا الهيثم بن التيهان ، وحذيفة ، وعماراً ، وهم يريدون أن


( 64 )

يعيدوا الاُمر شورى بين المهاجرين» (1).
إلى غير ذلك من نصوص اُخرى توضح معارضة هؤلاء لانحراف الامر عن علي عليه السلام ، فليراجعها من أراد.

السؤال الصريح :
وهنا يرد سؤال ، لابد من الاجابة عليه ، وهو :
أننا نرى هؤلاء وسواهم ، ممن هم على رأيهم ، في مواقع قيادية في هيكلية نفس هذا الحكم الذي يعارضونه ، ولا يرون مشروعية (2) ، فهذا يلي الكوفة ، كعمار ، وذاك يلي المدائن ، كسلمان ، وذلك كالاشتر وحذيفة يتولى قيادة الجيوش ، أو يشارك في الحروب .. وهكذا ..
مع أن المعروف والمتوقع من الفئة المعارضة ، هو أن تقاطع الحكم ، وترفض المشاركة فيه.. كما أن الفئة الموالية هي التي تستأثر بالمراكز ، ولا تسمح للخصوم بالمشاركة والوصول إليها ما وجدت إلى ذلك سبيلاً .. فما هو السر في مشاركة هؤلاء ؟ ، وما هو السر في قبول أولئك ؟

إجابة واضحة :
ونحن في مقام الاجابة على ذلك نشير إلى النقاط التالية :
أ : إن هؤلاء الاشخاص ، وهو النخبة الخيِّرة ، والطليعة الواعية ، من صحابة الرسول الاكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وعلى رأسهم سيدهم ، وأميرهم ، وقائدهم علي عليه السلام .. قد رباهم الاسلام ، وذابوا وانصهروا في تعاليمه ، ولم
____________
(1) شرح نهج البلاغة ، للمعتزلي الخنفي ج1 ص219 | 220 وج2 ص51 | 52.
(2) استدل بذلك المعتزلي الحنفي في شرح نهج البلاغة ج18 ص39 واستنتج : أن هؤلاء لم يكونوا من المعارضة ، والا لما شاركوا في السلطة.

( 65 )

يكن يهمهم إلاّ رضا الله سبحانه ، وظهور الدين ، وفلج الحق ، ولا يغضبون إلا لله تعالى ، ولا يرضون إلا لرضاه ، مهما كان ذلك صعباً ، ومراً بالنسبة إليهم ..
وإذا كان علي امير المؤمنين عليه السلام على استعداد لتحمل الهجوم عليه في بيته ، وضرب زوجته ، وهي بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، واسقاط جنينها ، واستصفاء أموالها ـ بل لقد روي أن عثمان قد ضرب علياً نفسه مباشرة (1) ـ إلى غير ذلك مما واجهه عليه السلام ، من الاهانات الكثيرة ، والرزايا الخطيرة ، مما هو معروف ، ومشهور ومسطور.
إذا كان علي عليه السلام على استعداد لتحمل ذلك .. فانه هو نفسه ذلك الذي يشهر سيفه بعد خمس وعشرين سنة من تحمل الظلم ، ويخوض الحروب الطاحنة ، التي تستأصل عشرات الالوف من الناس .
ما ذلك إلا لانه رأى في السكوت أولاً رضا ‏الله سبحانه ؛ فيرضى به؛ يقول : لاسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ، ويرى في الحرب أخيراً عملاً بالتكليف الشرعي ، فلا يتوانى فيه؛ ولا يتردّد ..
وكذلك الحال بالنسبة لهؤلاء الصفوة الاخيار من اصحابه عليه السلام ، فانهم لا يقدمون إلاّ على ما يرون فيه رضا الله سبحانه ، وظهور دينه ، وصلاح عباده..
ب : وبعد.. فان علياً عليه الصلاة والسلام ، وأصحابه الاكارم رضوان الله تعالى عليهم يرون : أن الاسلام يرفض السلبية ، من أجل السلبية نفسها؛ فانها تعني العجز ، والانهزامية ، والهروب من مواجهة الواقع ، وتحمل مسؤولياته ، لان هذه سلبية مضرة وهدامة ، وممقوتة.
كما أن هؤلاء الصفوة لا يرون في الحكم مكسباً شخصياً ، ولا مطلباً فردياً ، لابد من التضحية بكل شيء من أجله ، وفي سبيله ، وإنما يرون فيه مسؤولية ،
____________
(1) الموفقيات ص 612 القسم الضائع من الموفقيات. وشرح النهج للمعتزلي ج9 ص16.
( 66 )

وفرصة لتحقيق رضا الله سبحانه بخدمة عباده ، ورعايتهم وهدايتهم.
ويرون كذلك : أن الايجابية هي أساس الحياة ، ورائد العمل ، وطريق النجاة.. وحتى حينما يتخذون بعض المواقف ، التي تكون سلبية بظاهرها ، فانما تكون سلبية من موقع المسؤولية ، يراد لها : أن تتمخض عن إيجابية بنّاءة وخيِّرة ، تعود بالخير وبالبركات ، حينما يقصد منها : أن تكون اسلوباً لتذليل الصعوبات ، وازالة الموانع من طريق العمل والعاملين.
ولاجل ذلك نجد أمير المؤمنين عليه السلام ، الذي ذاق الأمرّين ، من غصب حقه ، والهجوم على بيته ، ومنع زوجته إرثها ونحلتها من أبيها.. إلى كثير من الاهانات والموبقات الكثيرة التي ارتكبت في حقه صلوات الله وسلامه عليه ، من قبل الذين بيدهم ازمة الامور بالفعل ، الامر الذي يجعل الجميع يتوقعون منه السلبية المطلقة في تعامله مع هؤلاء الذين غصبوه حقه ، وصغروا عظيم منزلته على حد تعبيره.
نعم .. إننا نجده عليه السلام يخالف كل التوقعات ، ويتجاوز جميع التصورات ، فهو يهتم بإقامة علاقات مع نفس هؤلاء الغاصبين ، تكاد تكون طبيعية ، ويشارك في كثير من الامور بمستوى معين ، ويقدم لهم النصح ، ويعطي رأي الاسلام الاصيل في كل كبيرة وصغيرة ، كلما أمكنته الفرصة ، ووجد إلى ذلك سبيلاً ، ولا يألوا جهداً في تقديم العون لهم في كل ما فيه نصرة للدين ، وخير ومصلحة المسلمين .. ولعلهم كانوا غير راغبين كثيراً بالاستجابة لمبادراته هذه ..
ثم هو يعطي الضابطة لمسلكيته هذه ، حين يقول :
« .. فوالله ، لاسلمنّ ما سلمت امور المسلمين ، ولم يكن فيها جور إلاّ علي خاصة ، التماساً لاجر ذلك وفضله ، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه» (1).
____________
(1) نهج البلاغة بشرح عبده ج1 ص120 | 121 ، الخطبة رقم 71.
( 67 )

ولكن هذه المعونة وتلك المشاركة.. قد رافقها الحفاظ على اصالة خطه الرسالي ، ومواصلة اظهار المظلومية ، والشكوى من انحرافهم عن الجادة ، ومخالفتهم للنبيّ الاكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم ..
نعم .. وهذه هي المشاركة البنّاءة ، والتي هي في خط الرسالة وخدمة لها.
وأما حين تكون المشاركة إمضاءً لممارسات الحكم اللامشروعة ، وسبباً ، أو فقل : عاملاً مساعداً في تركيز الانحراف ، وفي زيادة البعد عن الخط الاسلامي الاصيل .. وحيث يصبح الانسان أداةً بيد الحكم ، يستفيد منها لتكريس انحرافاته ، وتبرير أخطائه ، أو يتخذ منه واجهة تختفي وراءها شتى أنواع الفساد والظلم ، والهرطقة ، واللادينية.. فان هذه المشاركة تصبح خيانة للامة ، وللدين ، ولانسانية الانسان ، مهما كان ذلك الرجل شريفاً ، ونبيلاً في نفسه ، ومستقيم الطريقة في سلوكه الشخصي ، وفي ملكاته النفسية الخاصة ..
ولاجل ذلك نجد الائمة عليهم السلام ، ليس فقط لا يشاركون في الحكم الاموي والعباسي ، ولا يمدون لهما يد العون.. وإنما يعتبرون أدنى عون ، أو تأييد له ، حتى ولو بمثل أن يؤجّر الرجل جماله للحاكم؛ ليحج عليها ، الامر الذي يستلزم أن يحب بقاء ذلك الحاكم الظالم حياً ، إلى حين انتهاء مدة الاجارة (1) يعتبرون حتى هذا القدر ، من الذنوب الكبيرة ، والجرائم الخطيرة ، التي لا يمكن التساهل فيها ، أو الاغضاء عنها..
ج : وأما في صدر الاسلام ، حيث دور التأسيس ، وتركيز وتعميق القيم والمفاهيم الاسلامية ، والاساسية ، وحيث كان لابد من تأصيل الاصول ، ونشأة العقائد وتكونها ، الاُمر الذي يستدعي طرح وتركيز العقائد الصحيحة ، ورعايتها ، والحفاظ عليها ، وطرد كل ما هو دخيل ، وغريب.. فان أي انحراف ، أو تساهل ، لسوف يترك أثره على اصل الاسلام وأساسه ، ومفاهيمه ومبانيه ،
____________
(1) اختيار معرفة الرجال ، المعروف برجال الكشي ص441 وقاموس الرجال ج5 ص127.
( 68 )

ولسوف لا يختص ذلك بجيل دون جيل ، ولابامة دون اخرى ، بل ستبقى تلك الآثار على مر الدهور ، وفي جميع العصور.
وذلك يؤكد ضرورة وجود شخصية قوية وفاعلة ، واضحة الاتجاه ، سليمة الخط ، لا تذوب في الآخرين ، ولا تنفذ ارادات الحكم بصورة عمياء ، بل تزن كل شيء بميزان الحق والشرع ، وعلى أساس ذلك يكون الرفض أو القبول..
ثم يسجل التاريخ ذلك ، إلى أن يأتي اليوم الذي تعي فيه الامة أحداث الماضي ، وتصبح قادرة على وضع الامور في نصابها ، وتجد الدوافع ، وتتهيأ الظروف للتعرف على الاسلام الحقيقي ، ولو بصورة تدريجية ، كما حصل ذلك ، ولا يزال يحصل بالفعل..
د : ولا يتأتى القيام بهذه المهمة ، إلاّ بشيء من المرونة والايجابية ، ضمن حدود ، وبالمقدار الذي لا تضيع معه معالم الخط السياسي الاصيل ، ولا تذوب فيه هذه الفئة الصالحة ، ولا تستهلك أفكارها ورؤيتها في خضم التيار ، وإنما تطرح نفسها ، وافكارها ، وطروحاتها الواقعية ، التي تختزل التيار ، وتحتويه ؛ ليكون تياراً واعياً ومسؤولاً ، ولو على المدى البعيد ، بعد حين..
وإذا كانت سياسة الحكم والحكومات ، قد كانت تتجه إلى إيجاد بدائل لاُهل البيت ، ولصحابتهم الاخيار ، الذين كانوا علماء الامة ، واكابر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، والذين كان لاقوال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فيهم ، وفي بيان فضلهم ، وعلمهم ، وتقواهم ، أثر كبير في توجيه الناس نحو الاُخذ والاستفادة منهم ، واتخاذهم قدوة واسوة ، فان السلطة ، والقرشيين بالذات ، قد عملت على أن ينسى الناس أهل البيت ، وكل الاخيار ، من أصحابهم ، وأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم .. ليحل محلهم آخرون ، ينسجمون مع طروحات الحكم وطموحاته.. فكان أن مجدوا هؤلاء البدائل وعظموهم وأطروهم ، بما لا مزيد عليه ، حتى ليخيل للناظر :


( 69 )

أن هؤلاء ، وهؤلاء فقط ، هم شخصيات الاسلام ، ورجالاته ، وعظماء الامة وروادها.
مهما كانوا ـ في واقع الاُمر ـ منحرفين عن الاسلام وجاهلين بأحكامه ، وبعيدين عن مفاهيمه وتعاليمه..
حتى لقد نسي الناس أهل البيت ، وخبت نارهم ، وانقطع صوتهم وصيتهم ، وقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام إلى هذه الحقيقة ، وهو يتحدث عن الفتوحات ، التي لولا مشاركة الاخيار من الصحابة فيها ، لكانت وبالاً على الدين ، وشراً على المسلمين. ولكن مشاركة هؤلاء قد هيأت الفرصة لتعرف الكثيرين من غير العرب على تعاليم الاسلام ، بل لم تمض بضعة عقود من الزمن حتى أصبح علماء وفقهاء الاسلام ، ومفكروه من نفس هؤلاء الذين كان الحكم يريد أن يستعبدهم ، ويتخذهم خولاً واموالهم دولاً كما سنرى ..
نعم لقد اشار أمير المؤمنين إلى هذه الحقيقة ، وهو يتحدث عن هذه الفتوحات؛ فقال : « فتأكد عند الناس نباهة قوم ، وخمول آخرين ، فكنا نحن ممن خمل ذكره ، وخبت ناره ، وانقطع صوته وصيته ، حتى أكل الدهر علينا وشرب ، ومضت السنون والاحقاب بما فيها ، ومات كثير ممن يعرف ، ونشأ كثير ممن لا يعرف» (1).
ويكفي أن نشير هنا : إلى مكانة وموقع الامامين الحسن والحسين عليهما السلام في الامة ، هي من الامور الواضحة ، التي لا يكاد يجهلها أحد ، وكانت الامة قد سمعت ورأت الكثير من أقوال ومواقف النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم تجاههما.. ورغم أنهما قد عاشا بعد النبيّ الاكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم حوالي أربعين إلى خمسين سنة أو أكثر ، فاننا لا نجد فيما بأيدينا من نصوص إلاّ ما ندر وشذ : أنهما قد سئلا ، أو نقل عنهما شيء من امور الفقه ، والمعارف
____________
(1) شرح النهج للمعتزلي ج20 ص299.
( 70 )

الاسلامية.. رغم أنهما كانا يعيشان مع الناس ، ويتعاملان معهم ، وكانت الامة تعرف موقعهما ومكانتهما وحقهما .
هذا مع أن الجهل بالاسلام وبتعاليمه قد بلغ حداً جعل أمير المؤمنين عليه السلام يعتبر : أنه لم يبق من الاسلام إلاّ إسمه ، ومن الدين إلا رسمه .
كما أن البعض قد أوضح أنه لم يبق من الدين إلاّ الاذان بالصلاة ، إلى غير ذلك من نصوص ذكرنا شطراً منها في كتابنا : الصحيح من سيرة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في تمهيد الكتاب ـ.
وخلاصة الامر : إن سياسة الحكام وقريش بالذات كانت هي ابعاد أهل البيت عليهم السلام والاخبار من صحابة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الساحة ، وايجاد بدائل عنهم في مختلف المجالات.
وقد كانت مصلحة الاسلام تقضي بمقاومة هذه السياسة وافشالها ، ولا أقل من ابقاء صوت أهل البيت ، والخلَّص من رجالات الاسلام ، الذي هو صوت الدين والحق والخير ، بحيث يسمعه الناس البسطاء ، الذين يسعدهم أن يسمعوا شيئاً عن نبيهم ، ويعرفوا ما جاء به ، إذ لماذا يسمعون فقط من صنائع الحكم ومن أصحاب الاهواء والمآرب السياسية وغيرها ، من امثال سمرة بن جندب ، وعمرو بن العاص ، وكعب الاحبار ، وابن سلام ، وأبي هريرة ، والوليد بن عقبة وغيرهم؟ !
نعم.. لماذا يسمعون فقط من هؤلاء ويتركز في أذهانهم مفهوم خاطىء ، وهو أن هؤلاء يمثلون النموذج الحي لتربية الاسلام وهم المصدر لمعارفه وتعاليمه؟ !
ولماذا لا يتعرفون على عمار بن ياسر ، وعلى سلمان ، وغيرهما من أخيار الصحابة ، وابرار الامة وعلماء الاسلام الحقيقيين؟! وليرجع الناس إلى فطرتهم ، وإلى عقولهم ، فانهم لسوف يكونون قادرين ـ ولو بعد حين ـ على التمييز ، والتعرف ، ثم


( 71 )

اختيار العلماء الحقيقيين ، والاخيار ، والابتعاد عن المزيفين ، أصحاب الاهواء ، ووعاظ السلاطين ، الذين هم صنائع الحكم والحاكمين.
وأمّا بعد أن تأسّس أساس الاسلام ، واتضحت معالمه ، وظهرت شرائعه واحكامه كما هو الحال في زمن الامويين والعباسيين ، فان المشاركة في الحكم لا تعني إلا الاعانة على الظلم والانحراف ، وتبرير جرائم الحكم والحكام ، والموبقات التي يرتكبونها.. وليكون هؤلاء الواجهة التي تختفي وراءها كل المفاسد ، والمعول الذي يهدم به اساس الاسلام ، وإذن.. فلا تجوز المشاركة ، ولا مدّ يد العون لهم ، ولو بمثل أن يكري الرجل جمله للحاكم ليحج عليه .. اللهم إلاّ أن يكون في موقع حساس يسمح له بأن يقوم بخدمة كبرى للاسلام وللمسلمين ، كأن يمنع من استئصال شأفة المؤمنين ، ويحفظ لهم ولو الحد الادنى من وجودهم ، إما مباشرة ، أو بأن يكون في مركز يخوله الاطلاع على خطط الحكم ومؤامراته ، ليمكن مواجهتها بالموقف المرن والمسؤول ، ومن موقع الوعي والحذر..
هذا كلّه . . بالنسبة لمشاركة هؤلاء في الحكم .. وأما بالنسبة لاشراك الحكام لهؤلاء فيظهر : أنه كان لاهداف غير حميدة ، ولعل المراد اسكاتهم ، أو تلويثهم ، أو اظهار مشروعية حكمهم.. إلى غير ذلك من اهداف ، لسنا هنا بصدد تتبعها ولعل فيما ذكرنا ـ حول أهداف المأمون من تولية الامام الرضا عليه السلام العهد بعده ـ ما يفيد في هذا المجال .
بل لقد قال ابن شهرآشوب : « كان عمر وجّه سلمان أميراً إلى المدائن ، وانما أراد له الختلة ، فلم يفعل إلاّ بعد أن استأذن أمير المؤمنين ، فمضى فاقام بها إلى أن توفي ، وكان يحطب في عباءة يفترش نصفها .. إلخ» (1).
____________
(1) الدرجات الرفيعة ص215.